بدر الدين العتَّاق يكتب: جميلة ومستحيلة
أنا لا أكتب عن جامعة الخرطوم بذلك العنوان ولكني أكتب عن ” كيلو باتره” التي درست في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتلك الجامعة؛ وإذا قلت لي أنَّ جامعة الخرطوم كلية الآداب لا تحمل اسماً مركباً كــــ ” العلوم الإنسانية ” فهذا لا يعنيني في شيء إنما يعنيني تلك الفتاة التي تحمل معاني الآداب والعلوم الإنسانية فهي في حد ذاتها كلية الآداب؛ فافهم.
كانت تدرس في السنة الرابعة بكالوريوس آداب مرتبة الشرف حين تعرفت إليها ، وجاءت بها الأقدار السعيدة والأيام الجميلة إلى مدينة القاهرة حي فيصل بالجيزة بعد نيلها درجة امتياز بتلك الكلية أي بعد السنة الأخيرة؛ ولم نكن طيلة تلك الفترة التي تزاملنا بها نعرف بعضنا معرفة جيدة كتلك اللحظات الممتعة التي قضيتها معها هنا في القاهرة وبالتحديد في قهوة زيزينيا بشارع الملك فيصل؛ وكم من سنوات ضاعت بلا فائدة :
لا تلعن الأقدار لا يغني السباب
مضى العمر فلا يجدي العتاب
كيلو باتره أين كنت في الآداب
هذه لوحتي بعدما ضاع الشباب
في جلستنا بقهوة زيزينيا بشارع الملك فيصل العمومي بحي فيصل أمام الشارع المتفرع منه الموسوم بشارع المستشفى عند محل سانت جورج للمجوهرات؛ تقابلنا أكثر من مرة ، وفي كل مرة لا يتخلل الحديث أي نوع من الوعود ولا غيرها من الرومانسية ولكن كلانا يضمر في ضميره كل الرومانسية بحذافيرها وأضابيرها واكتشفت أنها متزوجة من ذلك الشاب ” عجيب المانجلك ” ولها منه ثلاث أطفال وهي لم تزل في ريعان الشباب ورَوْدِهِ كأنَّها لم تكبر قط ، أكبرهم عمره عشر سنوات؛ ويذكرني زوجها الشاب ” عجيب المانجلك ” بزميلينا في كلية التجارة آنذاك وهما ( ستنا وإسماعيل) اللذين أحبَّا بعضهما لدرجة عميقة للغاية وتواعدا بالزواج حالما يتخرجان في كلية التجارة – يدخن سيجار البينسون بشراهة مبالغة وشكله ” مش ولا بد ” فكان في أيام العطلات يعمل بمخبز يمتلكه وقيل بل يتعاون معه في توفير المصاريف الجامعية – وأذكر حين استشارتني ستنا في شخصه كان رأيِّ فيه بصراحة ( لا يليق بك) ولعلها أخبرته بذلك فكرهني أشد الكراهة طيلة سنوات الدراسة .
وفعلاً ؛ تزوجها بعد التخرج بسنتين وعاش معها سنتان وذاقا ألواناً من العذاب المعيشي والضنك النفسي والاجتماعي لأنَّهما لم يُكتب لهما الإنجاب فلم يكن لها كفواً ولعلها أيضاً لم تكن له بكفأ والله أعلم؛ وطلقها بعد زيارات كثيرة جداً للأطباء في محاولة للإنجاب ولم يفلحا فتزوجت بآخر وتزوج هو بأخرى ولم تنجب أيضاً من الأخير بينما أنجب هو من التي تزوجها بعدها .
أنا تذكرت تفاصيل تلك الزمالة بمناسبة كيلو باتره في محاولة مستحيلة أن تُطَلِّق الشاب آنذاك الشيخ الآن ” عجيب المانجلك ” فأتزوجها أنا بعيالها الثلاث ، لكن يظل الود ما بقي الإخاء.
في مرتين كان السؤال مباغتاً لها ولكنها كانت مهيأة له تماماً وهذا أشد ما أعجبني فيها وذلك من خلال جلستنا بقهوة زيزينيا في أمسية شتوية منعشة فالجو هنا في القاهرة بارد ليلاً أغلب أيام السنة علماً بأنَّ القهوة التي نجلس مع بعضنا فيها تطل على الشارع العمومي فأصوات العربات والضجَّة ( ضجَّة الشوق والهواجس ) والمارَّة يلقون بظلال جيدة يمكن استغلالها في عنصر المفاجأة ونحن نقطع سوياً الشارع العام إذ أمسك بيدي اليمنى يدها اليسرى في تصنُّع وقصد ليسري شعوريْنَا في جَنَبَاتِنَا بل مساماتنا وأنا أتكلف المحافظة عليها من سوء قيادة السيارات أن لا تصيبها؛ وأعلم جيداً أنها تعلم جيداً هذه الحيلة بصدق النوايا والمشاعر الجيَّاشة تجاهها بالتبادل ، ولكن لم تتح لنا فرصة أكثر من ذلك – أكرر وأقرر : لم تتح لنا فرصة أكثر من ذلك – أن نمسك تكلفاً وتصنعاً ببعضنا ليسري الشعور لمحله أينما كان؛ وكان السؤال في ذات اللحظة التي نقطع فيها الشارع العام وأنا أتَفَحَّصُ عيناها تفحص العليم الخبير :
– في زول قال ليك انت جميلة جداً وجذَّابة خالص ومستحيلة للغاية ؟! .
تفاجأت ولم تتفاجأ – ربما أنا الذي تفاجأت بالسؤال لا أدري – وهي تطيل النظر في أم عيني وتضغط على راحَتِيْ بكل صنوف العشق القديم والأمل والتفاؤل المستحيلين في أن تتكرر هذه الحركة الممتعة وزيادة وتبتسم بأحلى عيون بنريدها لزول علمنا الريدة وتجيب :
– أيوة؛ انت!.
وتواصل بخجل مشدود برغبة المشاعر في مزيد من الضغط على الكف :
– حقيقة عارفة كده وكتير من الناس بقولوا علي كده؛ طبعا بتختلف من زول للتاني وانت فاهم قصدي طبعاً.
في هذه اللحظة كنا قد قطعنا الشارع العمومي / ونحن نشعر بشعور وصولنا للهدف المشترك وهو التوافق ضمناً / تجاه القهوة لنحتسي شراباً من العشق الممنوع ونتبادل حكايات ممنوعة من النشر ونجلس في غزل عفيف يقل عن النظير ونتكلم من طريق الحواس السبع وإذا عكَّ الحوار نطلب مزيداً من النسكافيه باللبن لأنَّها تحبه جداً لنخرج من دائرة المستحيل لدرجة الصمت في حرم الجمال الحقيقي فقط .
جرسون القهوة اسمه رضا؛ وهو رجل فاضل وتعامله جيد مع الزبائن وخصوصاً العبد لله – الراوي العليم – لترددي عليه طيلة ثمانية سنوات قضيتها هنا في فيصل ويحترم كل ضيوفي بلا استثناء فهو يعلم أني أكتب في الصحافة السودانية والإعلام والميديا ومشهور كفاية وأكتب إليها هي بالتحديد في كل جلسة منفرداً أو مع أحد الضيوف ؛ ولا تفهم من كلمة ” كل ضيوفي” أنني متعدد الصديقات لكن كثيراً من الأحيان نأتي أنا وَزوجتي لذات القهوة ونجلس حتى آذان الفجر؛ فالليل والنهار بقاهرة المعز ينمحي معهما الزمن فلا تكاد تشعر به ، واللطيف في الأمر أن رضا الجرسون لا يفرِّق بين كيلو باتره وزوجتي لشدة التشابه بينهما فتأمَّل ! .
دعني أكتب لكم عن هذا الموقف قبل الإنتهاء من هذه القصة بالسؤال الثاني المفاجئ لكيلو باتره؛ وحدثت في حضرة والدتها السيدة حتشبسوت بشقتها المطلة على شارع فرعي داخل الحي ليس ببعيد عن قهوة زيزينيا بالدور السادس؛ حين جلسنا لبعض حاجياتنا ولم يكن هناك من مكان لتجلس عليه ابنتها كيلو باتره غير الأريكة التي أجلس عليها أنا – الراوي العليم – ، فعلاً جلست بالقرب مني حتى لكأنِّي أشم رائحة الفراولة في شعرها خلاف البُرفان من جسدها المتناسق ولبسها المحتشم المحترم وأسلوبها المهذَّب في تقديم واجب الضيافة في حق ضيفها المكلوم الذي هو أنا.
في هذه الساعة بالذَّات رمقتنا والدتها حتشبسوت بترجاع الذاكرة للوراء كثيراً وكثيراً قبل أن تتزوج من الشاب ” عجيب المانجلك ” فأحسست بأمنيتها أن لو حدث العكس وكنت أنا من تزوجها لا الشيخ الآن ” عجيب المانجلك” الذي يدخن سيجارة البينسون بشراهة منقطعة النظير؛ يشتريها من دكان ” دحدوح السوداني ” لبيع المنتجات السودانية بممر البن البرازيلي المطل على محطة سهل حمزة من ناحية شارع فيصل العمومي والمعروف أكثر بمحطة البن البرازيلي ؛ ومن الناحية الثانية يطل على شارع الدكتور لاشين؛ فالمحل في الوسط داخل برج ضخم يقع بين شارع دكتور لاشين وشارع فيصل العمومي ؛ إذ صمتت في ذات اللحظة التي جلست بجواري الحورية كيلو باتره ابنتها بدون سبب وتوقَّفَت عن الكلام الجاد والمثير دون سابق نحنحة ؛ لعل إحساسي كاذب وهذه بعض الأمنيات والدعوات الخادعة التي تتملك المكلوم من حين لآخر؛ ويمكنكم أن تسألوها عن هذه اللحظة أي حتشبسوت.
السؤال الثاني كان بحضور والدتها أيضاً :
– عاوز لي صورة معاك للذكرى؛ ممكن ولا لأ ؟.
– طبعاً لأ ! ( ووقف حمار الشيخ في العقبة ) زوجي لا يقبل بذلك وأنا ملتزمة معه لأبعد الحدود.
– دعي الأمر لي؛ سأخبره أنا بذلك بلا حرج؛ فما عليك إلا أن تواجهي الكاميرا فقط لالتقاط الصورة.
وعالجتها وعاجلتها بأخذ أكثر من لقطة مميزة وكان الغرض الأساس من الصورة ليس الصورة في حد ذاته بقدر ما كان القصد / نبيل أم غير نزيه ؛ أنا لا أدري؛ أترك لكم فرصة البحث عن تعليق مناسب / أن يلتصق كتفي بكتفها أثناء التقاط الصورة وهذا ما حدث بالضبط ولم أقابلها منذ ذلك الوقت من العام الماضي حيث انصرف الجميع لجني القطن من مزارع الخيال والأمل والتفاؤل.
هذه القصة ” جميلة ومستحيلة ” بمثابة رسالة إليها هي حيثما كانت إذ كتبتها نيابة عنها لا لتبرير موقف ولا معيبة للقضاء والقدر لكنه شرح ما فات علينا من مطلب قديم ورغبات صادقات لا نقدر على البوح بها ؛ فعادتنا وتقاليدنا وقيمنا الإسلامية لا تسمح بذلك؛ فعسى أن يكون مصيرها مصير زميلينا ” إسماعيل وستنا ” أيام الجامعة فالشوق إليها يملأ الفراغ العريض بلا مَنٍ ولا أذى وقلبها المتكاسل ؛ لا أدري .
لا تلعن الأقدار لا يغني السباب
مضى العمر فلا يجدي العتاب
كيلو باتره أين كنت في الآداب
هذه لوحتي بعدما ضاع الشباب