بدر الدين العتاق يكتب: قطار الشوق ، محطة مصر؛ الإسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم
المسافة بين محطة مصر برمسيس حتى محطة مصر بالإسكندرية حوالي مئاتي وثمانية عشر كيلو متر ( ٢١٨.٤ كيلو متر ) فأكثر بالقطار وبينهما عُدَّة محطَّات منها : بنها قويسنا وبركة السبع وطنطا وكفر الزيات والتوفيقية وإيتاي البارود ودمنهور وأبو حمص وسيدي جابر وأخيراً الإسكندرية وداخلها سموحة والعصافرة وسيدي جابر وخلافه ، ما يعادل ساعتان ونصف بالعربات السريعة وأربعة ساعات بالقطار القشَّاش ذهاباً وخمسة ساعات اياباً نسبة لترحيل الموظفين وخلافه وقت الذروة .
الإسكندرية إلى غيرها من المحطات على طول الطريق الزراعي الذي بين كل محطة والثانية إمَّا مباني ومدن سكنية تتشكل بين المباني القديمة العريقة والتي أثَّرت عليها طبيعة الأرض الزراعية؛ ومنها المباني السكنية الحديثة المتعددة الطوابق لكنها في العموم تعكس صورة مصر بطبيعتها الرائعة دون رتوش أو مبالغات ، ورغم ذلك الطريق المصاحب الأسفلتي مصمم بطريقة هندسية جيدة للغاية إلَّا أنَّه لا يخلو من تصدعات هنا وهناك وهذا التصدع ناتج عن فوران الأرض الزراعية التي تتخللها ترعة ضخمة وطويلة للغاية وصولاً إلى ما تعرف بالدلتا؛ وقد عزم المصريون على النهوض بالمنطقة على طول الشريط الزراعي بإقامة مباني ضخمة بمواصفات هندسية عالمية تحت الإنشاء ، وإمَّا مزارع ممتدة وواسعة على جانبي الطريق وأمتع ما في هذا الطريق الزراعي هو الطبيعة وغروب الشمس على القرى أو شبه القرى المتدفقة عليها ما تعرف بالعزبة تماماً كالتي تشاهدها في التلفاز بالأفلام المصرية القديمة.
قال المجذوب :
ألست ترى كيف يمضي القطار * فينأى مزار ويدنوا مزار
والعرب قديماً تعرف ركوب الإبل لقطع المسافات الطويلة ولا تعرف القطار ولم يقطع المجذوب بلاد مصر طولاً وعرضاً بالإبل ولكنه قطعها بالقطار حتى وصل إلى ميناء بورسعيد؛ كان ذلك سنة ١٩٤٥؛ وأمتع ما في رحلته تلك التوثيقية ما شاهده قبل دخوله حدود مصر في القُمُّرَة ذلك الرجل الذي يحمل حُقَّة صعود مكتوب عليها ” سِفْ واتهنا ؛ كيفك بالدنيا ” بكتابه ” من نافذة القطار” طبعة أولى سنة ١٩٦8؛ وقد ذكرها البروفيسور علي المك في يوم تكريم المجذوب سنة ١٩٩٣ بقاعة الصداقة بالخرطوم؛ واللذين يكثرون من قول يا man؛ وهم أفارقة كانوا معه في تلك الرحلة وهذا دأبهم يتحدثون الانجليزية بطلاقة وأغلب الظن مرد ذلك لأثر الاستعمار البريطاني على أفريقيا بعامة ولم يخل السودان بطبيعة الحال من تذوقه سنين عدداً .
في قطارنا نحن؛ والذي يُصْطَلَحُ عليه ” القشَّاش” لأنَّه كثير التوقف عند كل محطة لتبادل الركاب بين صاعد ونازل حتى كان في طريق العودة لا يجدون مقعداً فارغاً فيضطرون للوقوف المسافات الطويلة حتى يصلوا لمحطاتهم الي نعرفها شعبياً بــــــ ” الشمَّاعة ” ومما يلفت الانتباه أنَّ الخدمات داخل القطار لا تتوقف نهائياً من طعام وشراب على حساب الرُكَّاب طبعاً وكذلك كثير من المبيوعات المتنوعة والمتعددة بأسلوب العرض المغري ( عسلية بخمسة جنى؛ خدلك عسلية بخمسة جنى) مع حذف هاء جنيه عند نطقها من أغلب الباعة؛ وأشد ما يعجب من كل تلك المبيوعات داخل القطار الذي لا تكاد تحس بطول الطريق فيه هو بائع الشاي واليانسون ( خدلك كباية شاي؛ رَوَّأْ بكباية شاي يانسون ) وكوب الشاي واليانسون بخمسة جني ، وأنا أعز الشاي أوي .
محطة سيدي جابر؛ من أكبر المحطات على طول الطريق وهي امتداد لمدينة الإسكندرية الكبرى وتعرف بقبلي؛ إذ البحري هي الإسكندرية نفسها وما تاخمها منن أحياء وتقسيمات سكنية ؛ وتوجد بها صيانة وتوسعة لمحطة القطار وكذلك أعمال صيانة لطريق الأسفلت بمعالجة محطة مياه الشرب وتتكون سيدي جابر من عُدَّة تقسيمات سكنية منها سموحة التي تتمتع بالبنيان الحديث جداً وبها كلية فيكتوريا الجامعية ومؤهلة تأهيلاً كاملاً لكل الخدمات والبني التحتية ولعلَّ الإمام المرحوم السيد الصادق المهدي وعدد من آل المهدي كانوا يدرسون بها وكبار الفنانين أيضاً مثل الفنَّان العالمي عمر الشريف وأحمد رمزي وخلافهم ، وكذلك المدرسة البريطانية بالإسكندرية BSA وهي مدرسة انترناشونال مختلطة تضم جميع مراحل التعليم ما قبل الجامعي، وتعد من أشهر المدارس الانترناشونال التي تقدم شهادة IG في الإسكندرية.
ثم أكاديمية جيمس بالإسكندرية التي تحرص على توظيف معلمين أكفاء قادرين على توصيل المعلومات للطلاب بطريقة بسيطة وسهلة الاستيعاب، كما تهتم بإتقان اللغات الأجنبية إلى جانب حرصها على تعليم الطلاب لغة عربية سليمة.
هذا ! بمجرد وقوف القطار بمحطة سيدي جابر تتغير رائحة الجو بزيادة عامل الهواء المُشَبَّع بالرطوبة أثر مناخ البحر الأبيض المتوسط ولا يخلو الجو من رائحة زفارة كرائحة السمك غير منفرة؛ وما هي إلَّا ربع ساعة لا أكثر حتى تسمع صافرة القطار تعلن عن وصوله لمحطة مصر من أقصى الجانب الشمالي لإفريقيا انتهاء بمدينة الإسكندرية بالساحل الشمالي للقارة .
يسبق وصول الإسكندرية جُملة من المعلومات التاريخية وأولها وصول العرب إليها في القرن السابع الميلادي أي سنة ٦٤٥ الموافق لسنة ٢١ للإخراج النبوي الشريف؛ بقيادة الصحابي الجليل عمرو بن العاص بن وائل؛ الذي نصَّبه أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب على أرض مصر ، وكذلك نابليون بونابرت (1798-1801م ) الذي غزاها في القرن الثامن عشر الميلادي؛ ويذكر في هذا المقام تخوف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما استشار عَمْرَا بن العاص في دخول إفريقية من جهة الغرب فسأله عن البحر؛ قالوا : ” فهابه ” مما وصفه به عَمْرَاً من التهويل والمشاق وما إلى ذلك فقال : ( والله لا أحمل المسلمين على هذا ) ؛ ورغم ذاك قطعت العرب البحر الأحمر من جهة الغرب نحو أفريقيا وبعضهم سلك طريق سيناء ووصلوا شواطئ البحر الأبيض المتوسط بالإسكندرية التي سُمِّيَت على الإسكندر الأكبر سنة ٣٣٢ قبل الميلاد ، ثم محاذاة نهر النيل حتى بلاد كوش والنوبة القديمة من جهة صعيد مصر غزواً وفتحاً وانتهت بالاتفاق الشهير المعروف باتفاقية أو معاهدة البقط مع النوبة بمملكة مروى والتي كان على رأسها الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي السرح سنة ٦٥١ للميلاد واستمرت ردحاً من الزمان؛ ولمَّا يغب عن الذهن أيضاً تلك الحضارة الفرعونية القديمة ومرور يوسف ويعقوب وموسى – عليهم السلام – وبني إسرائيل لأرض طابا دوماً من أرض كنعان حين أصابت المنطقة الجدب والقحط في القصة المعروفة للعامة ، وأثرياً قلعة قايتباي والسواري والمتحف الروماني واليوناني والاسكندراني وهلم جرا .
هذا ! يسحرك شاطيء الإسكندرية الأخَّاذ بلون الماء الأزرق والمناخ الرائع وسكانها الطيبون البسطاء؛ وهم يختلفون جداً عن غيرهم من سكان مدينة القاهرة من ناحية السحنات والطبيعة فتشعر بالهدوء وحسن المعاملة في تصرفاتهم عكس سكنى القاهرة من جانب سرعة الانفعال مع الأحياء والأشياء باتفاق حسن المعاملة المعاشرة السِمَةُ الغالبة على أهل مصر الكنانة؛ قال تعالى : { ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } سورة يوسف؛ وكثرة الحركة التجارية على امتداد الساحل / آخر نقطة تلاقي بين اليابسة والماء بأرض أفريقيا السمراء / بروح خفيفة ونشيطة وإيقاع سريع .
حي المندرة الإسكندراني؛ حي راقٍ وجميل يقع عند محطة أبراج شيراتون التي تبعد عن محطة مصر القطار حوالي نصف ساعة من الناحية الشرقية المحاذية لساحل المتوسط ؛ لكنه ضيق الشوارع الداخلية وغير مخطط المباني السكنية من حيث توزيع المساحات وتتميز مبانية ذات الأبراج العالية بالطول المتعدد الطوابق حتى تصل لأكثر من ثمانية عشر طابقاً خلاف قانون المباني السكنية بالقاهرة التي لا تزيد عن أحد عشر طابقاً عدا الأبراج التجارية؛ وإنك لتجد بين حي المندرة ومحطة مصر نهضة سياحية جديدة بإقامة منتجع سياحي على نمط مخطط النخلة بالإمارات العربية المتحدة؛ داخل البحر بحوالي نصف كيلو تنفذه شركة مصر للتعمير لساحل المتوسط؛ ومن ثم فهي واجهة سياحية ترافق مثيلاتها من المدن الذكية والنشاطات التجارية على الساحل الشمالي مثل مارينا وهايسلندا وسيدي عبد الرحمن ومدينة العلمين التي تشهد طفرة عمرانية ضخمة شاملة كاملة والساحل الشمالي وهلم جرا.
تختلف الأسعار في كل النشاطات الحياتية بالإسكندرية مقارنة بالقاهرة اختلافاً طفيفاً لكن الإسكندرية أفضل / الرَحَّالة السويسري جون لويس بوركهارت ( 1784 – 1817 ) الذي زار السودان كتب في تقريره أو كتابه ( رحلة إلى بلاد النوبة والسودان ) وصفاً دقيقاً جداً لكل ما مرَّ به حتى أسعار المنتجات الزراعية والمأكولات والمشروبات وحين زار ديار الجعليين في أبريل 1814 علَّق قائلاً : ” لا يأكلون إلَّا بالشُطَيْطَة الحارَّة ” أي : الفلفل الحار الأخضر ونحن نعرفها بالسودان بالشطَّة الحمراء بعد تجفيفها في الشمس الزمن الطويل ثم تسحن جيداً باليد أو بالماكينة الكهربائية ثم يضاف إليها الليمون الحادق لفتح الشهية وبالذات مع أكل اللحوم الحارَّة والمبَهَّرَة جيداً بالتوابل والمشهيات في موسم عيد الأضحى وأغلب المناسبات الاجتماعية ، وهذه طبيعة التوثيق لأدب الرحلات كما ترى / مثل إيجار الشقق المفروشة والفنادق التي تتراوح بين (200 جنية مئتا جنية إلى 500 جنيه خمسمائة جنية لليوم الواحد ) حسب المنطقة والمواصفات وما إلى ذلك ، والمأكولات والمشروبات والمواصلات وقوَّة الشراء وعدد السكان أو قل الكثافة السكَّانية زيادة على الجاليات العالمية المختلفة التي تأتي لغرض السياحة لكن الظاهر أنَّ أغلب السُوَّاح توجهوا نحو المدن السياحية الحديثة مما ذكرت عاليه نسبة لنوع الطراز المعماري الرائع المختلف جداً عن مدينة الإسكندرية القديمة التي يفضلها السُوَّاح لتوافر الأمن والأمان والحريات الشخصية البحتة عند موسم الصيف بالتحديد ” الكابينة أو الكابينات ” .
مكتبة الإسكندرية العامة؛ التي تقع على الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط ، تعد من أكبر المكتبات الورقية الثقافية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والوطن العربي بلا منازع ؛ وتحوي أكثر من أحد عشر مليوناً من الكتب المتنوعة المتعددة والمخطوطات التاريخية الأثرية التي يقصدها السُوَّاح والمهتمون في كل العالم بنحو مليون ونصف المليون زائر سنوياً وهي مبنية بطراز رفيع المستوى مُرَاَعَى فيه الطرق العلمية الحديثة في المحافظة على الإرث الورقي وعوامل مناخ المتوسط الذي يغلب عليه الرطوبة الشديدة وهي معلم سياحي بارز لا يمكن تجاوزه.
” شعبان بتاع السمك؛ ده السمك إللي بيقولوا عليه”؛ محل تجاري شهير للغاية للمأكولات البحرية ما تعرفه وما لا تعرفه من الأسماء والأصناف للمأكولات البحرية / وجبة سمك أو تربيزة سمك بخمسمائة جنيه (500 جنيه ) تكفي خمسة أشخاص / ؛ ويعد من مقاصد السُوَّاح الذي يمتاز بالسمعة الطيبة والمذاق اللذيذ الشهي متوسط القيمة المالية ولا تندم إذا زرته ودفعت حفنة دولارات وقُدِّمَتْ لك الشوربة الدافئة sea foodمع طبق الأرز والسلطات والمشهيَّات طيبة المذاق والرائحة فهو يستحق الزيارة العائلية بلا شك ” كل واتهنا؛ بطنك بالدنيا “.
محطة القطار مصر مرَّة ثانية؛ لطريق العودة إلى المدينة الفاضلة الحبيبة القاهرة وأنت تركب القطار البطئ ” القشَّاش” ذات الملامح والشبه مع زيادة المتعة في الترحال ورؤية الناس وهم يتوافدون زرافاتٍ زرافاتٍ ووحداناً وحداناً مثل تلك الفتاة الجميلة المهذَّبة التي لا يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين وتقطن بقرية محطة ايتاي بارود / هي أخبرتني بذلك وقالت : لفت انتباهي اللهجة التي تتحدثون بها ليست بأيٍ من قرى صعيد مصر؛ وجاءها الخبر بأن الكاتب من بلاد السودان فقالت : ” أجدع ناس؛ أحسن ناس “؛ قال الشاعر أحمد شوقي :
سَل يَلدِزاً ذاتَ القُصورِ هَل جاءَها نَبَأُ البُدور
لَو تَستَطيعُ إِجابَةً لَبَكَتكَ بِالدَمعِ الغَزير
/ ولم تجد مقعداً خالياً ” وقفت شمَّاعة ” فما كان من السوداني / صاحب الأسطر / الذي يجلس على كرسيين محجوزين إلَّا أن أهداها مقعداً مقاصداً لمحياها الجميل؛ فشكرته وانتبذت مكاناً قصياً بمحطة ايتاي بارود وكانت أول وآخر مرة يراها فيها.
قطار الشوق متين ترحل تودينا
نشوف بلدا حنان أهلا ترسي هناك ترسينا
نسايم عطبره الحلوه تهدينا وترسينا
نقابل فيها ناس طيبين فراقم كان ببكينا
ياقطار الشوق متين توصل حبيبنا هناك راجينا
متين نحضن عويناتو متين يسرع يحينا
ياقطار الشوق ده ليل الغربة فيهو ودار
متين تسرع متين بنكمل المشوار
عشان مانلقي فيها الناس ونطفي البينا من النار
نشوف عينيهو نعسانه ولونوا الزاهي كلوا نضار
ياقطار الشوق حبيبنا هناك يحسب في مسافاتك
وكان فكرت في الميعاد وكان قللت ساعاتك
وكان حنيت علي مرة وكان حركت عجلاتك
( الإسكندرية ماريا وترابها زعفراني ) .
القاهرة في : ٢١ / ١ / ٢٠٢٤
شاهد أيضاً
*قسم بشير محمد الحسن يكتب :* *افرازات تدهور العملة السودانية امام العملات الاجنبيه !!!*
*قسم بشير محمد الحسن يكتب :* *افرازات تدهور العملة السودانية امام العملات الاجنبيه !!!* مازالت …