د. إسماعيل ساتي يكتب: بعيداً عن السياسة:
لمحة عن الفكر المنظومي – الجزء ١ من ٣
يُروى أن قريةً كان جميع سكانها من المكفوفين زارها يوماً ملك مع حاشيته، وكان للملك فيل عظيم فأراد ثلاثة من السكان المكفوفون أن يتعرفوا على شكل هذا الفيل وحجمه، فقاموا بتحسسه لجمع معلومات عن كنهه وراح كل منهم يلمس جزءاً من جسده الضخم. اعتقد كل فرد فيهم أنه كان يعرف ماهية الفيل، لأنه قد تحسس جزءاً منه… فمن تحسس أذن الفيل قال: “إنه كالسجادة”. ومن تحسس زلومته قال: “إنه كالأنبوب المستقيم والأجوف”، ومن تحسس ساقه قال: “إنه كالعمود”.
لقد تحسس كل رجل منهم جزءاً واحداً فقط من عدة أجزاء مكونة للفيل الضخم. وكل منهم كان قد عرّف الفيل خطأً رغم أن وصفه كان صائباً!
هؤلاء الأكفاء يحتاجون أن يتعلموا أسس الفكر المنظومي ويطبقونها. فكم منا رغم قدرته على أن يرى لا يزال كفيفاً كفاً منظومياً؟ وكم هي المشكلات التي نواجهها اليوم تحتاج منا لتبني مقاربات غير ما ظللنا نفعل؟
فما هو المقصود بالفكر المنظومي (Systems Thinking)؟
إنه ببساطة غير مخلة علم من علوم الإدارة المعاصرة نشأ وشاع في عالم الاجتماع والسياسة والمال والأعمال والتعليم والتطوير، وما شابه.
هذا الفكر له أصوله الثابتة في مجال النظم الديناميكية System Dynamics، والنظم النقدية Critical System .
تأسس هذا العلم على يد البروفيسور جاي فوريستر، الذي أدرك الحاجة إلى طريقة أفضل لاختبار المنهجيات الجديدة في النظم الاجتماعية، بنفس الطرق المتبعة في اختبار القواعد في مجال الهندسة.
والفكر المنظومي مختلف كلياً عن الأساليب التقليدية للتحليل، فالتحليل التقليدي المسمى المنهج الاختزالي (Reductionist) يركز على فصل العناصر المفردة لمنظومة ما عند دراستها بمعزل عن دراسة تأثيراتها على غيرها من المناظيم الأخرى. وكلمة “تحليل” تأتي في واقع الأمر من المعنى الأساس وهو “الدخول في المكونات”، تماماً كما فعل المكفوفون دون قصد مع الفيل. بينما الفكر المنظومي نقيض ذلك، فهو يركز على كيفية تفاعل المكونات موضوع الدراسة مع المكونات الأخرى لنفس المنظومة أو لمنظومات أخرى خاضعة للدراسة.
ونحن نعيش في عالم لا نهائي من المناظيم المتداخلة. فكل ما تقع عليه أعيننا هو مثال لمنظومة داخل أخرى. فالجهاز الهضمي بجسم الكائن الحي، والنظام المالي والإداري بشركة ما، ونظام المرور، وشبكة الإنترنت، كلها أمثلة لمنظومات تؤدي أنشطتها بهذه الكيفية. ففريق كرة القدم هو منظومة تضم عناصر مثل اللاعبين والمدرب والميدان والكرة. تربط مكوناتها قواعد اللعبة واستراتيجية المدرب واتصالات اللاعبين ببعض وقوانين الفيزياء التي تحكم حركات الكرة واللاعبين، بهدف الفوز بالمباريات أو التسلية أو ممارسة الرياضة أو الحصول على المال الوفير أو كل ما سبق.
والمدرسة منظومة. وكذلك المدينة والمصنع والشركة والاقتصاد الوطني. والحيوان أمثلة لمنظومات وكذلك الشجرة والغابة، إلا أن الغابة أكبر وأشمل لأنها تتضمن مناظيم فرعية كالشجرة والحيوان. والمنظومة الأسرية هي جزء من منظومة أكبر، فهي المجتمع الصغير الذي بدوره يشكل حياً أو قرية أو مدينة أكبر، والمدينة داخل الدولة، والدولة داخل منظومة المجتمع الدولي. حتى الكرة الأرضية هي أيضا منظومة داخل منظومة أكبر منها هي المجموعة الشمسية والتي بدورها تعمل داخل أخرى أكبر وهكذا هو الحال مع كافة مخلوقات الله من جماد ونبات وحيوان وإنسان.
إن طبيعة الفكر المنظومي تجعل منه أسلوباً فعّالاً للغاية في معالجة أصعب المشكلات وأكثرها تعقيداً، كالمشكلات التي تواجهها مجتمعاتنا في السودان اليوم، مثل الصراعات الإثنية والأيدلوجية والفقر والنزاعات حول المراعي وشيوع الفساد وزيادة رقعة التصحر وشح المياه ونظام التعليم. إلا ان تعقيداتها تتطلب من اهل الفكر المنظومي ان يضعوا حول المناظيم التي ينوون دراستها إطاراً دون ان يسعوا لفصل مكوناتها عن بعضها البعض، بالعمل على دراسة العلاقات الترابطية فيما بينها وكيفية تأثيراتها عليها وعلى غيرها.
وبالنظر إلى الأطر التي تعيش فيها مجتمعاتنا اليوم، نجدها عبارة عن مجموعات لا حصرية من المناظيم المتداخلة والمتفاعلة داخلها وخارجها. فنجد منظومات عسكرية وأمنية ومجالس نيابية وتشريعية ومحلية، ومنظومات قبلية وجهوية وإثنية تحكمها نظم التجارة والاجتماع والسياسة والتقنية.
فهل نجحت مساعينا في القيام بالدور المنوط بها في نهضة أمتنا باتباعها المقاربات الاختزالية؟ وهل للصراعات الدائرة الآن في السودان وفي الإقليم علاقة بما نقول؟ هل يمكن طرح منهجية جديدة للتفكير يمكن أن تساعدنا في تناول المطروح من هذه المعضلات والسعي لمعالجتها؟
هذا ما سوف نتناوله بمشيئة الله في الجزء الثاني من هذا المقال.