د. إسماعيل ساتي يكتب: بعيداً عن السياسة:
لمحة عن الفكر المنظومي – الجزء 3 من 3
تناولنا في الجزء الثاني من مقالنا أهمية بناء قدراتنا المنظومية من أجل خلق مفاهيم جديدة عند تعاملنا مع قضايانا، سيما الكؤود منها. كما استعرضنا بعجالة في ذيل الجزء الثاني قوانين يمكن بها ضبط ممارسات الفكر المنظومي وعددها إحدى عشر، وهي ليست بحصرية العدد.
وسوف ننظر في هذا الجزء للكيفية التي نطبق بها هذه القوانين ونعطي لها أمثلة من صميم محليتنا.
كما أشرنا إلى أن الفكر المنظومي هو إما فكر حركي أو فكر نقدي، وأن تركيزنا في هذه العجالة هو على الفكر الحركي. ذلك أن حركة الحياة لا تهدأ وأن فنيات التعامل مع مجريات الأمس قد لا تصلح في التعامل مع مجريات اليوم وأن فنيات التعامل مع مجريات اليوم قد لا تصلح للغد.
وسوف نتناول هنا أربعة من قوانين (الفكر المنظومي الحركي)، سبق أن أشرنا إليها، نقوم بتوضيحها عبر المثال التالي:
اكتشف العالم السويسري بول مولر عام 1940 المادة الكيماوية المعروفة بالـ (DDT) كمبيد حشري والذي بسببه حصل على جائزة نوبل للعلوم. واستمر استخدام هذا المبيد حتى جاء من يطلع العالم عام 1950 على آثاره الجانبية وتأثيرها السلبي على التنوع الحيوي والبيئي، وهو ما جعل الدول تشرّع من القوانين في عام 1970 ما يمنع استخدامها بعد أن وجدوا رواسب لها بجسم الإنسان.
من هنا جاءت أهمية قانون (مشاكل اليوم، حلول الأمس) الذي يبين حتمية دراسة الآثار المستقبلية لمشكلات قيد البحث. كما أن قانون (قد يكون العلاج أسوأ من المرض) يجعلنا نستبعد بعض خيارات لحلول قد تبدو منطقية وملائمة، إلا أن كلفتها أعلى. أما قانون (السبب وتأثيره قد لا يكون له علاقة بالزمان والمكان) فهو يحثنا على دراسة العواقب الزمانية والمكانية لمقاربة ما. فمثلاً، لا أحد يجادل حول أهمية التعليم، إلا أن نتائجه سوف تستغرق سنوات قبل أن تُفيد المجتمع والناس (البعد الزماني)، وكذلك عوائده في موطن محدد (البعد المكاني)، ذلك أن هذين البعدين الذين يفصلان بين مدخلات ومخرجات مقاربة ما هما أبعد من إمكانية قياسها. أما القانون الرابع الذي ينص على أنه (كلما دفعت المنظومة أكثر في اتجاه، كلما دفعت هي للاتجاه المعاكس) فهو يشير إلى أن بعض القضايا التي قد نواجهها، كالتحديات الأمنية، لا يصلح معها مقاربة تعتمد على خيار أوحد، فمن يظل يعتقد أن معالجة مشكلة أمنية يستند على تعزيز الأدوات الأمنية دون غيرها كان كمن يحاول أن يحرث في المحيط، لأن نفس هذه المقاربات سوف تكون سبباً في تدهور أشد للأوضاع الأمنية التي اسُتهدف اقتلاعها. هذا تحديداً ما يدعو إلى تبني فكر منظومي يساعد على ترقية الرؤى وتضمينها منظومات أوسع من مجرد المنظومة الأمنية (على أهميتها)، كما يؤكد على توسيع نطاق تضمين أكبر عدد من المشاركين في دراسة هذه الحلول، من مستفيدين (Beneficiaries) وضحايا (Victims).
ولإيضاح ما نزعم، دعونا نستعرض هذا المثال:
يُحكى أن إحدى شركات تصنيع الأحذية البريطانية قامت بإرسال اثنين من مندوبي مبيعاتها إلى إحدى الدول الأفريقية (هكذا تقول القصة) للنظر في إمكانات سوق الأحذية وتقديم تقرير عنها.
وبعد عودتهما، كتب المندوب الأول قائلاً: “لا توجد إمكانات هناك – لا أحد يرتدي الأحذية”.
وكتب المندوب الثاني قائلا: “توجد إمكانات هائلة هناك – لا أحد يرتدي الأحذية”.
تفسر هذه القصة البسيطة أهمية التشاركية في التباحث حول فرص وتحديات التعامل مع القضايا التي نواجهها وكيف أن الناس يختلفون حول نفس الأمر اختلافاً قد يكون جذرياً، وهذا من طبيعة الأشياء؛ ذلك أن مفاهيمنا يعتمد تكوينها على عوامل يصعب إدراكها أو قياسها.
كم عدد المرات التي توصلنا فيها لحلول لمعضلات قدت مضاجعنا وظننا أننا قد نجحنا في القضاء على مسبباتها، ليتبين لنا بعد مدة أن حلولنا المطبقة قد أدت لمشكلات أعظم وأشد وعورة؟
وقضايانا التي نواجهها بعضها ملحٌّ كالحروب التي نواجهها، وبعضها طويل الأمد ولكنها ضرورية؛ نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: عدم الاستقرار السياسي، وعلاقة المؤسسة العسكرية بالحكم، والتخلف بأنواعه، وضعف الأداء في الخدمة المدنية، ونقص البنيات التحتية، والمعضلة الاقتصادية، والتباين القبلي أو العنصري وعلاقات بلادنا الخارجية. مع العلم أن هذه ليست مجرد ملفات جامدة بل منظومات ديناميكية متحركة، كما أن كثيراً مما ذكرنا هو مترابط ومتفاعل في نفس الوقت. كما قد تكون بعض هذه القضايا أعراض لأمراض باطنة لا تُرى بالعين المجردة، وهو أمر يجب التشاور حوله عند بحثه.
كما لا يفوتنا أن نشير إلى سلسلة المؤتمرات التي انعقدت خلال الفترة من 2014 إلى 2016 تحت مسمى (مؤتمر الحوار الوطني). كان ذلك جهداً حميداً يمكن أن يُصنَّف بأن به دلائل منظومية، مع تحفظنا على مسمى (مؤتمر)، إلا أنها كان ينقصها عدد من المقومات، نذكر منها:
1. دعوة المرشحين قبل عقد المؤتمرات للمشاركة في سلسلة من ورش العمل يتدربون خلالها على أسس الفكر المنظومي وكيفية تطبيق أدواته.
2. تدريب المشاركين على كيفية رسم خرائط منظومية أو ما يُسمّى بالنمذجة المنظومية (Systems Archetypes) والتي توضح لهم حركية المناظيم المؤثرة والمتأثرة والتي سبق الإشارة إليها في الجزء الأول من مقالنا، كما يدرسون ترابطية (Interrelatedness) وتفاعلية (Interactiveness) كل المناظيم قيد البحث.
3. تكليف مسهلين (Facilitators) ذوي خبرة منظومية للإشراف على ومراقبة أداء المشاركين أثناء عقد هذه التجمعات وتصحيح المسارات إن وجبت؛ ومن ذلك منع تغول بعض المشاركين وفرض رؤاهم على الآخرين بأسباب منها سياسي أو اجتماعي أو فني أو سلطوي. كما نحذر ممن يسمّون أنفسهم بالنخب أو الصفويين، فممارساتهم هي الأبعد عن مبادئ الفكر المنظومي، مما ينبغي محاربة طغيانهم الفكري على غيرهم.
4. تطبيق واحد أو أكثر من منهجيات سبر بواطن القضايا قيد البحث من أجل كشف ما لا يظهر على السطح من مسببات جذرية.
5. قيام المشاركين قبل البدء بوضع حدود (Boundaries) للتفريق والتمييز بين ما هو داخل المنظومة قيد البحث وما هو خارجها حتى لا تخرج المقاربات عن غاياتها وحتى لا يزيد الأمر تعقيداً.
6. البعد عن التعامل مع هياكل المناظيم التي تم التوصل إليها على اعتبارها نهائية، والاستمرار في إعادة هيكلتها حتى تتضمن كافة الرؤى دون حجر على أحد.
7. أما مخرجات هذه اللقاءات فيجب وضع الخطط الاستراتيجي منها والتشغيلي من أجل تطبيقها على أرض الواقع تطبيقاً يتجاوز المحلية لشمولية تعين على النظر في مؤثراتها ومعينات تجنب سلبياتها.
إن النقاط السبع أعلاه ليست هي كل المطلوبات بل بعض ما يسمح به المكان.
الخلاصة
ينظر الفكر المنظومي إلى الكليات الموحدة للأشياء وليس لمفردات مكوناتها فيما يعرف بالفكر التحليلي. وعليه، فالغرض منه هو فهم الكيفية التي تتفاعل وتترابط بها مكونات المنظومات قيد البحث.
كما أن الترتيب الذي تعمل به مكونات المنظومة وتتفاعل فيما بينها هو أمر حيوي لوجودها كما أن سلوك المنظومة الكلي هو محصلة بنيتها التي لا يحدث أي تغيير فيها إلا ويؤدي إلى تغيير سلوكها الجزئي والكلي.
هذه هي الرؤية التي ينبغي على صاحب القرار أن يستبصرها، رؤية نسميها (الاستبصار المنظومي).
ihsatti@hotmail.com
Check Also
*د.محمد الريح الشيباني يكتب:* *سطور من نور:* *هذا ليس من الكرم في شيء*
*د.محمد الريح الشيباني يكتب:* *سطور من نور:* *هذا ليس من الكرم في شيء* أغيثوا المنكوبين …