بخاري بشير يكتب: خارج الإطار:
الأمن البحري السوداني والشركات الوطنية
ما جرى لمطار بورتسودان من استهداف بالمسيرات وردت عليه منظومات الدفاع في وقته دون وقوع أضرار كبيرة، هو استهداف تم من عدو معلوم تخوض ضده قواتنا المسلحة الباسلة حربا شرسة، استطاعت في محصلتها النهائية أن تنتصر عليه في محاور عديدة .. لكن الذي هو أخطر من العدو الظاهر والمكشوف، هو هو ذلك العدو الخفي المتغلغل داخل الأراضي والمدن والموانئ السودانية، هو أقرب للخلايا النائمة التي تتأهب وتتربص بالبلد والأمن.
الموانئ السودانية تعتبر من أهم منافذنا الحدودية التي ينبغي أن تتمتع بدرجة عالية من التأمين والحراسة والعين الساهرة، باعتبار أن هذه الموانئ ظلت على مدار عقود موضعا لصراع دولي وتقاطعات لاطماع إقليمية ودولية عديدة.
أولى درجات تأمين الموانئ السودانية هي ان تستخدم الدولة في عمليات نقل مستلزماتها وإدارة لوجستياتها في موانئها الشركات الوطنية دون غيرها، وان لا تترك الأمر لنواقل ومواعين أجنبية همها الأول قبل جمع المال هو جمع المعلومات في ظل صراع يتزايد اواره ولا يتراجع.
صحيح أن الموانئ هي بوابات منفتحة على كافة المدن والدول، وتجوبها حركة تجارية واسعة تعمل فيها الآلاف من الشركات الأجنبية، لكن أن تمنح هذه الشركات امتيازات النقل الرسمي للدولة، ويتم بالمقابل ابعاد كافة الشركات الوطنية، فهذا يقود لفتح ثغرة كبيرة تتسرب عبرها المعلومات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، الأمر الذي يمنح الشركات الأجنبية أيا كانت نواياها فرصة ذهبية للسيطرة على موانئ البلاد وقدراتها الاقتصادية.
في علوم العسكريات ظهرت حروب جديدة لا تدور رحاها في الميدان العسكرية، بل هناك ميادين عديدة لما يعرف بمصطلح ( الحرب الهجين)، في الاقتصاد والدبلوماسية والمعلومات، والموانئ، والحرب السيبرانية.
صحيح أن قطاع النقل البحري في السودان تعرض منذ نهاية العقد الماضي لعمليات تجريف عميقة عبر عمليات الخصخصة التي راحت ضحية لها شركة الخطوط البحرية، أو ما عرفت وقتها بسودان لاين، وفقد السودان خلال تلك الحقبة السوداء، التي لم تسلم من أذرع الفاسدين أكبر أسطول بحري، كان يضم حوالي ١٧ باخرة سودانية كاملة الدسم، تميزت بسمعة ممتازة في أعالي البحار، كل ذلك ضاع من السودان بفعل سياسات غبية شجعت على ممارسة الخصخصة وتحرير الخدمات، والتي كانت أيضا بابا كبيرا للفساد وهرولة النفوس الضعيفة نحو جمع الأموال، وانعدام الضمير الوطني الذي يشكل صماما لأمان المال العام.
تلك عهود قد مضت باخطائها، وظل السودان يعاني تبعاتها حتى الآن، وينبغي في العهد السوداني الحالي، ونحن نخوض حرب الكرامة ضد عدو لئيم لا يرعى الا ولا ذمة، وقد تمايزت الصفوف، ينبغي أن تنزع الدولة السودانية اولا نحو تصحيح تلك الاخطاء، ومنع وقوعها من جديد.
إن ما جرى في عقودات نقل الحجاج لهذا العام، التي أبرمها المجلس الأعلى للحج والعمرة، يفتح الباب من جديد أنام أخطاء قديمة متجددة، ويمنح الشركات الأجنبية فرصة لأحكام سيطرتها على ميناء السودان الأول، ويعيد للأذهان المخاوف من جديد بوقوع السودان في عمق دائرة الصراع الدولي، بل ويمنح الأعداء فرصا ذهبية للحصول على كل ما يريدون بسهولة ويسر.
قد يتصرف بعض المسؤولين السودانيين بعيدا عن الحكمة، وباجتهادات شخصية، دون أن يعوا مخاطر ومآلات تصرفاتهم، وربما يكون التصرف بحسن نية وجهل بنتائجه، وربما عكس ذلك.
المجلس الأعلى للحج والعمرة قام أخيرا بمنح حق نقل الحجاج لهذا العام لشركة أجنبية، وفي ذات الوقت قام باستبعاد الشركات السودانية الوطنية، وما جعل هذا التصرف فيه كثير من الريبة والشكوك، هو أن الشركات الوطنية تم أبعادها برغم استيفائها لكافة الشروط، بل إن شركة تاركو للنقل البحري احدى الشركات المستبعدة استوفت الشروط وزيادة، لامتلاكها ناقلين بحريين (الاول لتنفيذ العقد- والآخر احتياطي)، إضافة لعرضها تفضيلا آخر بنقل الحجاج جوا اذا أخلت بالاتفاق البحري، وأعتقد أن هذا يمثل قمة الاستعداد للوفاء بكل الالتزامات، وبرغم ذلك أبعدت الشركة ، وقد استلمت خطاب من المجلس يبارك لها اختيارها ضمن الشركات الناقلة للححاج.
تدخل الدولة في هذا الأمر أضحى أمرا لازما، لثلاث أشياء نرى أنها مهمة.. الأول هو غلق الباب أمام أي فرص محتملة للفساد، والثاني أن تقوم الدولة بإنصاف الشركات الوطنية وتشجيعها، والثالث أن تسد المنافذ أمام أي تغول أجنبي أو تفريط في سيادة الدولة، وقطعا أن سيادة الدولة يبدأ التفريط فيها عندما تترك مثل هذه المساحات لجهات أجنبية لا تهمها المصلحة السودانية.