بدر الدين العتَّاق يكتب:
” المُنَظِّرون ” مدينة العالم ، محاكمات أخلاقية
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أبالي بتسمية الكتاب ” المُنَظِّرون” لصاحبه الأستاذ / أبو ذر آدم الطيب ( المولود في نوفمبر 1989 م تقريباً ) ؛ المطبوع في مصر بورسعيد طبعته الأولى ٢٠٢٣ عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع والذي أمدني به مشكوراً للتعليق عليه وهأنذا أفي بما وعدته من تعليق.
هذا ! لا أبالي بتسميته رواية أو قصة قصيرة أو خلاف ذلك؛ لكن بينما أنا أطالع فقراته وجدته أقرب للخواطر المبعثرة والتداعيات والذكريات والأفكار التي تلح على صاحبها أن تخرج في قالب روائي ليس صرفاً؛ كذلك؛ ولا قصة متكاملة الأركان / راجع كلمتنا عن الموضوع ” نظرية النقد الأدبي” بكتابي تحت الإعداد – العقل الروائي السوداني – لمزيد من المعلومات والفهم القرائي والميديا والصحف السودانية السيَّارة / فهو يأخذ من كل بنصيب قليل فيتركه لبحبوحة التلقائية التي فيما أعتقد أنَّه تفرَّد بها عن غيره من كُتَّاب الرواية أو القصة القصيرة أو الاثنين معاً؛ لكن أطمأن أنا بأنَّها مجموعة تداعيات وذكريات وخواطر مبعثرة في قالب كتابي جميل له من الفكرة ووحدة الموضوع نصيب وافر.
بمعنى ثاني؛ هذا الكتاب أقرب للترجمات الأفرنجية منها إلى العربية؛ فأنت تجد أسلوب التقطيع بين كل ثلاث لأربع كلمات في سطر واحد لمتداخلات كثيرة وعديدة تحمل نَفَساً واحداً هو مكنونات في نفس الكاتب وذاكرته دون الرجوع أو قل : الإنتباه والتركيز على ضبط الإيقاع الداخلي للنص بحيث يتحول السرد من خاطرة وفكرة مكتملة الأركان إلى نص روائي محض بالتوافق بين الحس الداخلي وبين تدوينه وهنا الفارقة في الأسلوب إذا كان يقصده في ذاته بينه وبين آخرين حاولوا وفشلوا أو كادوا أن يفشلوا لولا لطف الله بهم من كثرة المجاملات التي أعابت نهج الكتابة الرصين الجيد الذي يخدم غرضاً لا شخصاً بعينه وغايته من ذلك تقوية الذوق ودُرْبَةُ المَلَكَةِ وسلامة اللسان العربي التي تشرَّفت العربية بنزول القرآن عليها والله المستعان .
هذا ! يمكن الرجوع للنص بُغْيَة المقارنة بين هذا التحليل الاستقرائي والتخمين وبين من يسِمون النص بأنه رواية فكلٌ يرى رأيه بطبيعة الحال؛ قال قائلهم :
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة * فإن فساد الرأي أن تترددا
أنا أسميتها تحليل استقرائي لا نقدي لسبب مباشر وواضح هو خلو النص – أقَلَّاها بالنسبة لي – من الفلسفة والتعقيدات الكلامية والفذلكة الفارغة وتحريف وتوليد الكلام إلى غير إتجاه؛ فالنص عندي تلقائي مهذَّب بسيط ولا تجد أثر التكلف أو الصَنعة فيه وهذا ما شجعني لإتمامه في ساعة واحدة واعلق عليه ووفر علي الجهد والوقت في التفنيد والاعتراض فنجَّاه الله ونجَّاني .
تحليل النص
تتمحور وتتلخص قضية النص في عقوق الوالدين في حين الأوجب هو بِرَّهم والإحسان إليهم كما أمر الله تعالى وجاءت بذلك الرسل والأنبياء عليهم السلام تترى توصي بهم وبالعناية لهم ؛ ويرى الكاتب أنَّ التأعصر بإلقائهم في دار العجزة والمسنين له من معيبات وآفة الحداثة اليوم رغم يقينه بتطور العصر وحاجياته ( مدينة العالم ، تدور أحداث الكتاب حولها والتي تحوي الحداثة والأصالة من مختلف ثقافات الناس وسحناتهم وأشكالهم وجنسياتهم وهلم جرَّا ) لكنه قديم أصيل يتمسك بالعرف وبالدين في زمن نأى أكثرهم عنه؛ قال ص ٧٣ : [ ويلقى يعقوب الأبيض بدار المسنين ” لعلكم دفنتموني بالحياة… لعلكم دفنتموني بالحياة ] .
” أمير ” يُمَثِّل في النص الإبن العاق الذي يجبر والده باسم الحداثة والمعاصرة أن يكمل باقي حياته في دار العجزة المسنين ويقوم بتحويل بيته الفخم الذي تعتني بتنسيق أزهاره الأخت نازك ويمثِّل له كل حياته.
” يونس” يُمَثِّل في النص الإبن البار؛ الذي هو من يعيد التوازن الذي يتمناه الأب يعقوب فهو من أثبت أنَّ أصل البشرية من مدينتنا العالم ، راجع خطابه لأبيه من الفصل السادس ص ٦١.
مآخذ على النص ، الأخطاء اللغوية
١ / جاء في ص ٨ ؛ ٢٢ وما بعدهما الآتي : ( مادَّاً رجليه المتورمتين ) والصواب : أرجله؛ فالأولى من الارتجال والثانية من الأرجل القدمين .
٢ / ( وجهه متمرقاً ) والصواب : متعرقاً؛ لأنها أقرب للسياق السردي.
٣ / ( لا ينقصني سوى اللحاق بحبيبتي إلى الأبد؛ سوى اللقاء بها بين الأموات والذهاب إلى جنتنا المختارة؛ لنطوف حولها ونقطف ثمارها فرحين بأعلى أصواتنا؛ بأعلى أصواتنا؛ ياسمين حبيبتي؛ ياسمين) ص ١١.
لاحظ التقطيعات الكلامية بين الفواصل؛ في حين الأجود تركها بدون فواصل.
هذا ! ههنا خطأ في التعبير والسياق العام للنص لأنَّ عامل السن المتقدمة لبطل الحكاية يعقوب الأبيض قد تجاوز الستين من عمره كما فهمت أنا خلال القراءة فلا تليق به؛ بل تليق بمن هم في عمر الشباب؛ ثم لك أن تلاحظ تلقائية الكاتب في الكتابة التي أوقعته في شرك الخلط التعبيري بين سن الشباب وسن المشيب؛ قال الفرزدق ” مع التصرف ” مخاطباً الحجاج بن يوسف الثقفي :
قل للجبان إذا تأخر سرجه * هل أنت من شرك المنية ناج
أمَّن سد مطلع النفاق عليهم * أمن يصول كصولة العتَّاق
وآخر البيت : كصولة الحجاج.
٤ / ( مطربين) ص ١٢؛ والصواب : مضطربين؛ فالأولى من الطرب والثانية من الاضطراب والقلق.
٥ / ( أبي كان يصيح… الخ ) الفقرة ص ١٤؛ لا تخلو من تكلف وتضخيم للحدث بأنَّ يعقوب جنَّ جنونه فيحدِّث نفسه حتى اجتمعت عليه الخلوق من كل مكان وتسوَّروا السور ليروه مما شكَّل فضيحة لأبنائه ، ولا بأس بها لكنها لا تعجبني .
٦ / ( يحتاج من ينظف له قازوراته ) ص ٢٣؛ والصواب : قاذوراته بالذاي المعجمة لا الزاي المهملة.
٧ / ( أصلها من جذر القمر ) ص ٢٧؛ والصواب : جُزُر القمر؛ فالأولى من الجذر أي الأصل؛ والثانية الدولة الإفريقية المعروفة.
٨ / ( وفستاناً أزرق ) ص ٤٣؛ ٤٦ وخلافه؛ والصواب : وفستاناً أزرقاً؛ لأنها مضاف إليه فتتبعها في حركة الإعراب.
٩ / أسلوب المناجاة لزوجته المتوفاة ياسمين – يعقوب الأبيض يناجي زوجته ياسمين من أول النص لآخره وهنا الإشارة بطرف للعمل الروائي لكنها ليست رواية بحتة – ص ٤٤؛ غير لائق وشبابي محض ولا يتفق أن يصدر من شيخ مسن.
١٠ / لا بأس بالتعليق العاطفي لدى كبار السن لزوجته لكن التعبير مخل بمقام الشيخ ص ٦٨ فأنا أصر على تعليقي هذا.
مزايا النص
هذه الموازنة بين المزايا والعيوب بقصد إعطاء فكرة عامة عن الكتاب ولخلق أبعاد تستحق التسجيل؛ مثلاً :
1 / قال في ص ٢٠ : ( فعلنا أشياء كثيرة لأجل إن تبكي علينا السماء )؛ فهذا تعبير جيد مأخوذ من الآية بسورة الدخان : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29 ) } فشبه بكاء السماء بنزول الغيث أن تسقي الحرث باختلاف المناسبتين بكل تأكيد .
2 / يشير إلى قضايا الدين والجهاد من طرف واضح ص ٥٦ : ( لا ينتمي لدين ويكره الأديان) لكن؛ فكرته فيما أرى قامت على مبدأ الدين وهو بر الوالدين ، وعسى أن يكون ثمَّة تناقض بين الفقرتين أو الفكرتين والله أعلم.
3 / قال من ص ٧٠ وهو يحكي رؤية رءاها في المنام : ( أمس الأول فسرته بقحط ربنا يصيب مدينتنا ويتشرد الآلاف بين المدن البعيدة والقرى والغابات )؛ وفيه إشارة جيدة لقحط السياسية السودانية ٢٠١٩ – ٢٠٢٣ وما تبعها من أحداث مأساوية دامية وصدق حدسه أو حلمه كما ترى بلا شك أو لعله كتبها بعد ما رأى ما حدث لا أدري أيهما كان .
4 / لا يخلو النص من إشارة إلى سياسة سالبك تجاه المجتمع السوداني وما يجري فيه من أحداث بأيدي أبناءه من قحط أو قحت إن شئت.
ملاحظات عامَّة حول النص
* النص أقرب في الأسلوب لقصص الأطفال من غيره لما يحتازه من بساطة وعفوية وتلقائية محببة من هذا الباب ؛ راجع ص ٢٢.
اقاربنا قارب السمار
قاربنا يشتعل بالحب
قاربنا ممتلئ أسرار
* لا يخلو النص من خيال متقطِّع أو أفكار تشغل بالك الكاتب بما يعرف بالمدينة الفاضلة أو المثالية فيجمع المتناقضات في محاولة بريئة لتكون عملاً روائياً وأفلح إن صدق ؛ راجع ص ٢٥.
* الجهد المبذول واضح لتركيب الجملة ووضعها من وعثاء الفكرة في كل النص إلى حيز الكتابة.
* الخطابات النثرية بها روح المقال أو الخاطرة المرسلة إرسالاً ومتفرقة في محاولة منه لترابط الصياغات لا فكرة لنص روائي وإن كان يحمل وحدة الموضوع بلا شك؛ لاحظ الحوار بين يعقوب الأبيض وأمين صديقه دار مباشرة دون تمهيد للقارئ ص 36 وما قبلها وما بعدها .
* لم يرد ذكر تفصيلي لأبناء يعقوب الأبيض من الفصل الأول وحتى الأخير فيما أوحى به للقارئ مظنَّة لب الموضوع فإذا به يدور حول الذكريات / جائز ومن حقه ذلك / والخواطر المبعثرة والتداعيات .
* هناك اضطراب ص ٦١ قال : [ دافع عني ديفيد برسالة نصية عبر الهاتف قائلا للجميع هذه مشاعر صادقة لا يستطيع أحد وصفها إلا عبر الورق والقلم ] وجه الاضطراب هنا : أين كان ديفيد هذا في حين أن يونس يكتب رسالة لأبيه يعقوب الأبيض في مكان ما على السفينة؛ ثم ديفيد كان ينتظر يونس بالتقرير عن حالة المناخ الشتوي في مكان آخر غير السفينة ؟! لعل الكاتب لم ينتبه لها والله أعلم .
تتمة
يتحدث الكاتب بلغة الضمير – أنت – فتراه يختصر كل ما رواه من تداعيات ومخزون عاطفي على المستويَيْن النصي والأنا حيث قال بلسان أبيه ص ٦٣ : ( قصتك جميلة؛ أنت مبدع حقاً؛ لا تتوقف عن الكتابة؛ أجدك بها أفضل من الشعر )؛ رسالته لأبيه هي في الحقيقة قصته هو الشخصية أراد أن يغلفها بطابع الضمائر المتصلة بالمجتمع والمنفصلة عن الذات؛ الايغو في قالب مكتوب ومقروء فافهم يا هداك الله.
أكتفي بهذا القدر في إبداء طرح هذه الكلمة التي كان أساس مرجعيتها كتاب ” المُنَظِّرُونْ” وما تبدَّى لي من فهم فيها ولعلَّه قد فاتني الكثير من متعها لكن ” لكل أجل كتاب ” وأشكر لحضرة الأخ الأستاذ / أبو ذر آدم الطيب؛ حسن صنيعه إذ أشركني في مطالعة ما يكتب ويفكر وأتمنى له التوفيق والنجاح الدائم مستقبلاً بكل فنون الكتابات الإبداعية إن شاء الله.
القاهرة في : ١٦ / ١٢ / ٢٠٢٣
شاهد أيضاً
*د.محمد الريح الشيباني يكتب:* *سطور من نور:* *هذا ليس من الكرم في شيء*
*د.محمد الريح الشيباني يكتب:* *سطور من نور:* *هذا ليس من الكرم في شيء* أغيثوا المنكوبين …