Home / الاعمدة / د. إسماعيل ساتي يكتب: بعيداً عن السياسة: لمحة عن الفكر المنظومي – الجزء ٢ من ٣

د. إسماعيل ساتي يكتب: بعيداً عن السياسة: لمحة عن الفكر المنظومي – الجزء ٢ من ٣

د. إسماعيل ساتي يكتب: بعيداً عن السياسة:
لمحة عن الفكر المنظومي – الجزء ٢ من ٣

تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال مدخلاً يبين ماهية الفكر المنظومي وقلنا أنه منهجية إدارية شاعت في نهاية القرن العشرين، يتناول المعضل من المسائل المعقدة في عالم الأعمال والمال والسياسة والاجتماع، من أجل فك طلاسمها في أطر تحدد التباين بين المناظيم تحت الدراسة وغيرها من المناظيم التي لا ينوي الدارسون أن تحتويها هذه الفحوصات. كما بينا أن خلق الله من الجماد والنبات والحيوان والإنسان محكومون بأدوات وقوانين الفكر المنظومي سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك.
وفي هذا الجزء نحاول أن نجيب على بعض الأسئلة التي طرحناها في ذيل الجزء الأول.
أن شرح هذا الفكر بطريقة ميسرة للناس والذي ما فتأت المكتبة العربية تغض الطرف عنه، يساعد على تناول جذور أسباب أزماتنا المتجذرة والمزمنة في تاريخ وجغرافيا السودان وكذلك بدول العالم النامي، نتيجة لإصرارنا على تناول قضايانا بأسلوب اختزالي. ذلك أن 90% من حجم ما نراه من معضلات إنما هو غاطس تحت السطح ويحتاج ليد تحفر لتبين جذورها.
فعلى سبيل المثال عندما نسأل عن الأسباب المتجذرة لمعضلة تفشي مرض الملاريا في بلادنا يقولون أنه (بعوض الأنوفيليس)، فيقوم المسؤولون بمكافحة البعوض بالرش وردم البرك الراكدة. هذا هو ما نسميه الفكر الاختزالي (Reductionism)، الذي يعزل السبب عن المسبب مكاناَ وزماناً، لأن ما ينتج عنه يكون دراسة واحد من أسباب تفشي مرض الملاريا دون الباقي، تماماً مثل ما فعل (كفيفو الفيل) في القصة سالفة الذكر.
إن من أسباب عدم فاعلية حملات مكافحة الملاريا طوال عقود عديدة هو أننا لا ندرس هذه المسألة كمنظومة بل كحالة، وهذا ما أسميه ضعف البصيرة المنظومية، التي تحتاج عند دراستها لفكر إداري مغاير.
أما الفكر المنظومي فيتناول أهله، عند دراسة منظومة ما، كلاً من المناظيم المؤثرة (Beneficiary Systems) والمناظيم المتأثرة (Victim Systems)، كيف تترابط (Interrelate) وتتفاعل (Interact) مع بعض سواء على المستوى الأفقي (أي علاقة منظومة بما جاورها من مناظيم) أو على المستوى الرأسي (علاقتها بالمناظيم على المستويين الأعلى والأدني). فالفكر المنظومي يبحث في مكونات المنظومة وترابطاتها وليس في كيفية عمل مفرداتها.
نخلص إلى القول أن دراسة منظومة تفشي مرض كالملاريا منظومياً يتطلب تطبيق أربعة عناصر ضرورية لبناء بصيرتنا المنظومية، هي:
1. صقل قدراتنا على فهم المنظومة وأجزائها، وهو ما نحاول فعله هنا.
2. إبصار الترابط بين المناظيم المؤثرة والمتأثرة وأجزائها في مستوييها الرأسي والأفقي.
3. طرح سؤال “ماذا لو؟” حول السلوكيات المستقبلية المحتملة.
4. إعادة هيكلة المنظومة بيانياً.
فكيف نعيد هيكلة منظومة ما (كمنظومة تفشي مرض الملاريا)؟
دعونا نتخيل الآن أن القائمين على دراسة ظاهرة تفشي مرض الملاريا في بلادنا هم من أهل البصيرة المنظومية. عندها، ومن اجل إعادة هيكلة هذه المنظومة يقوم هؤلاء الدارسون برسم خريطة منظومية تبين التفاعلية والترابطية للمناظيم المؤثرة والمتأثرة لأسباب تفشي هذا المرض. من ذلك: منظومة بعوض الأنوفيليس وسلوكياته، ومنظومة المرضى وسلوكياتهم، ومناظيم البيئة والتعليم والعادات الاجتماعية والفقر والرعاية الصحية، إلى آخر هذه المؤثرات والمتأثرات من منظومات بعضها رأسي وبعضها أفقي. لذلك قلنا يجب على الدارسين أن يقوموا برسم خريطة منظومية لها أدواتها التي لا نستطيع أن نتطرق إليها في هذه العجالة.
المهم في ألأمر أن نبعد عن التفكير الاختزالي عند دراسة مسألة ما.
إن وضع ضوابط لحل وجه واحد من مشكلة ما إنما يزيدها تعقيداً لأنه حل مبني على التحليل الاختزالي للأجزاء. فمثلاً لو قام الناس بمكافحة الآفات الزراعية بمبيدات كيماوية بمعزل عن مؤثراتها، لانتهى الأمر بنتائج قد تكون أكثر ضرراً على صحة الإنسان والحيوان والنبات.
وقد يقول قائل أن الأمر ليس باليسير لحل معضلة ما بل قد يقود لزيادة تعقيدها! فنرد بالقول أن شكه في محله، فليس الأمر مرتبط بحل معضلة بل بدراسة كيفية التعامل معها، لأن الفكر المنظومي يزعم أن التعلم الحقيقي يكمن في الرحلة نفسها وليس في الوجهة التي تقصدها، والمشكلات لا تُحل بل تُعامل لترتقي لمستويات أعلى من الإدراك التعلمي، لأن كل حل ينتج عنه مشكلات مستقبلية أخرى، أو كما قال آينشتين (مشكلات اليوم،، حلول الأمس!).
ولأن المناظيم تتداخل فيما بينها، لذا يمكن أن يكون هناك صراع بين غايات ضمن غايات. فالغاية من الجامعة هو اكتشاف المعرفة والحفاظ عليها ونقلها إلى الأجيال الجديدة. أما داخل منظومة الجامعة، فقد تكون غاية الطالب هي الحصول على درجات عالية، وقد تكون غاية الأستاذ هي الحصول على منصب، وقد تكون غاية المدير هي الحفاظ على تحقيق الموازنة. يمكن لأي من هذه الغايات الفرعية أن تتصارع مع الغاية الكبرى للمنظومة الأعلى – فمثلاً يمكن للطالب أن يغش، ويمكن للأستاذ أن يهمل الطلاب لانشغاله بنشر الأوراق العلمية، ويمكن للمدير أن ينهي التعاقد مع عدد من الأساتذة من اجل الحفاظ على الموازنة. لذلك يرى أهل الفكر المنظومي أن تناول منظومة ما بالدراسة يجب أن يشترك في دراسته كافة المؤثرون (Beneficiary) أو المستفيدون، والمتأثرون (Victims) أو الضحايا.
وهنا نقول أن للفكر المنظومي قوانين ضابطة نذكر منها:
1) مشاكل اليوم، حلول الأمس.
2) كلما دفعت المنظومة أكثر في اتجاه، كلما دفعت هي للاتجاه المعاكس.
3) ينمو السلوك بشكل أفضل قبل أن يسوء.
4) الخروج الأسهل من الأزمات غالباً يعيدنا إلى الدخول الأسهل (لما كنا فيه).
5) قد يكون العلاج أسوأ من المرض.
6) قد يكون الأسرع أبطأ «تمهل حتى تصل سريعاً».
7) السبب وتأثيره قد لا يكون له علاقة بالزمان والمكان.
8) التغييرات الصغيرة قد يكون لها نتائج كبيرة، إلا أن نقاط التأثير الأعظم لا تكون ظاهرة للعيان.
9) لا شيء في الحياة أبيض أو أسود. مشاكلنا جميعها بين اللونين.
10) تقسيم فيل إلى نصفين لا ينتج عنه فيلين صغيرين.
11) إصبعك الذي ترفعه للوم أحد سوف يرتد إليك، فالكل متصل.
فكيف نطبق هذه القوانين عند تناول أزماتنا المزمنة والتي أضحت معضلات لا تبرح تفارقنا؟
هذا ما سوف نتناول اليسير منه في حلقتنا الثالثة والأخيرة بإذن الله.

About Admin2

Check Also

*د.محمد الريح الشيباني يكتب:* *سطور من نور:* *هذا ليس من الكرم في شيء*

*د.محمد الريح الشيباني يكتب:* *سطور من نور:* *هذا ليس من الكرم في شيء* أغيثوا المنكوبين …